إبن خلدون
مقدمة: ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خالد (خلدون) الحضرمي)(غرة رمضان 732هـ/27 مايو 1332 - 19 مارس 1406م/26 رمضان808هـ) مؤسس علم الاجتماع ومؤرخ مسلم من إفريقية في عهد الحفصيين وهي تونس حالياً ترك تراثاً مازال تأثيره ممتداً حتى اليوم. ولد ابن خلدون في تونس عام 1332م (732هـ) بالدار الكائنة بنهج تربة الباي رقم 34. أسرة ابن خلدون أسرة علم وأدب، فقد حفظ القرآن الكريم في طفولته ، وكان أبوه هو معلمه الأول , شغل أجداده في الأندلس وتونس مناصب سياسية ودينية مهمة وكانوا أهل جاه ونفوذ، نزح أهله من الأندلس في منتصف القرن السابع الهجري، وتوجهوا إلى تونس ، وكان قدوم عائلته إلى تونس خلال حكم دولة الحفصيين .
حياته:قضى أغلب مراحل حياته في تونس والمغرب الأقصى وكتب الجزء الأول من المقدمة بقلعة أولاد سلامة بالجزائر، وعمل بالتدريس، في جامع الزيتونة بتونس وفي المغرب بجامعة القرويين في فاس الذي أسسته الأختان الفهري القيروانيتان وبعدها في الجامع الأزهر بالقاهرة، مصر والمدرسة الظاهرية وغيرهم [2]. وفي آخر حياته تولى القضاء المالكي بمصر بوصفه فقيهاً متميزاً خاصة أنه سليل المدرسة الزيتونية العريقة و كان في طفولته قد درس بمسجد القبة الموجود قرب منزله سالف الذكر المسمى "سيد القبّة". توفي في القاهرة سنة 1406 م (808هـ). ومن بين أساتذته الفقيه الزيتوني الإمام ابن عرفة حيث درس بجامع الزيتونة المعمور ومنارة العلوم بالعالم الإسلامي آنذاك.
المسجد الذي درس فيه ابن خلدون خلال صباه بالعاصمة التونسية
يعتبر ابن خلدون أحد العلماء الذين تفخر بهم الحضارة الإسلامية، فهو مؤسس علم الاجتماع وأول من وضعه على أسسه الحديثة، وقد توصل إلى نظريات باهرة في هذا العلم حول قوانين العمران ونظرية العصبية، وبناء الدولة و أطوار عمارها وسقوطها. وقد سبقت آراؤه ونظرياته ما توصل إليه لاحقاً بعدة قرون عدد من مشاهير العلماء كالعالم الفرنسي أوجست كونت.
عدّدَ المؤرخون لابن خلدون عدداً من المصنفات في التاريخ والحساب والمنطق غير أن من أشهر كتبه كتاب بعنوان العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، وهو يقع في سبعة مجلدات وأولها المقدمة وهي المشهورة أيضاً بمقدمة ابن خلدون، وتشغل من هذا الكتاب ثلثه، وهي عبارة عن مدخل موسع لهذا الكتاب وفيها يتحدث ابن خلدون ويؤصل لآرائه في الجغرافيا والعمران والفلك وأحوال البشر وطبائعهم والمؤثرات التي تميز بعضهم عن الآخر.
دار ابن خلدون بالعاصمة التونسية
اعتزل ابن خلدون الحياة بعد تجارب مليئة بالصراعات والحزن على وفاة أبويه وكثير من شيوخه إثر وباء الطاعون الذي انتشر في جميع أنحاء العالم سنة 749هجرية (1348 م) وتفرغ لأربعة سنوات في البحث والتنقيب في العلوم الإنسانية معتزلاً الناس في سنوات عمره الأخيرة، ليكتب سفره الخالد أو ما عرف بمقدمة ابن خلدون ومؤسسا لعلم الاجتماع بناء على الاستنتاج والتحليل في قصص التاريخ وحياة الإنسان. واستطاع بتلك التجربة القاسية أن يمتلك صرامة موضوعية في البحث والتفكير.
رحلات ابن خلدونالرحلة إلى فاس> كان ذلك ضمن حملة عسكرية اضطر السلطان أبو إسحاق أن يقوم بها، وكان ابن خلدون الشاب من أفراد حاشيته.. واستمرت هذه الرحلة من المغرب الأوسط إلى المغرب الأقصى حوالي سنتين كاملتين تنقل خلالها ابن خلدون بين عدة مدن وبوادي وعاشر القبائل وعرف الشيوخ وهنا أتيح له أن يعايش البدو في واقعهم ، ويتعرف إلى طبائعهم، ويقف على مناحي سلوكهم. وبعد أن سيطر ابن عنان المريني على المغرب كله قربه منه وفي بلاطه اتصل بالأساتذة من أهل المغرب ومن أهل الأندلس الوافدين للسفارة فجمع بين علم أساتذة البلاط وخبرة أهل البادية.
ولكنه أودع السجن بعد أن اتصل بأحد أمراء (بجاية) المخلوعين بتهمة مساعدة هذا الأمير على استعادة حكمه السابق وظل سجينا لمدة عامين كاملين إلى أن مات السلطان أبو عنان.. فأطلق السلطان الجديد سراحه.
الرحلة إلى الأندلس والسفارة
> بعد حوالي تسع سنوات قضاها في البلاط المغربي وصل ابن خلدون إلى الأندلس عام 764هـ وأقام في ضيافة السلطان أبي عبدالله محمد ثالث ملوك بني الأحمر وباني مسجد الحمراء العظيم في غرناطة.
وكان قد قدم له ابن خلدون خدمات جليلة حينما لجأ إلى فاس تحت حكم السلطان أبي سالم. وقد أكرمه السلطان أبو عبدالله وأرسله سفيرا عنه إلى ملك قشتالة وهناك رأى آثار أجداده بإشبيلية حيث وقف على مجد الأسرة السياسي.
وبعد عودته للأندلس ونجاحه في مهمة السفارة السياسية أكرمه السلطان وعاش خبيرا في شؤون البلاط، إلا أن أهل الدسائس والمؤمرات أوغلوا صدر الوزير عليه فأحس ابن خلدون بالخطر فقرر أن يتجنب الدخول في معركة مفتوحة مع صديقه وأثر العودة إلى بجاية التي أصبحت في حكم صديقه وحليفه السلطان أبي عبدالله ليتولى أعلى منصب سياسي في عصره ، وهو منصب الحجابة لسلطان بجاية ، وهو يعني الوساطة بين السلطان وأهل دولته.
واستمر في هذا المنصب حتى أوجس خيفة منه ، فطلب ابن خلدون الإذن بالرحيل إلى مكان آخر فأذن له.
الرحلة الثانية للأندلس والخيبة>
قضى ابن خلدون عشر سنوات من عمره مجربا هذه الحياة دانت له خلالها الخبرة العسكرية، بالإضافة إلى الدراية السياسية والاقتصادية، ولكنه مع ذلك أحس أن هذه الفترة كانت من فترات القلقة فقرر الذهاب إلى الأندلس بقصد الاستقرار والدعة، لكن من سوء حظ ابن خلدون أن شهرته السياسية وقيادته العسكرية لقبائل المغرب كانتا قد سبقتاه إلى البلاط الأندلسي، مما جعله هذه المرة شخصا غير مأمون الجانب، فلم يجد في هذه الرحلة ما لاقاه من ترحيب في الرحلة الأولى فعاد أدراجه إلى تلمسان ليقوم بالسفارة بين أبو حمو وبين قبائل الدواودة ذات الخطر والأهمية.
قلعة ابن سلامة (الرحلة إلى أحياء أولاد عريف)
> استقر رأي ابن خلدون على خوض غمار الكتابة والتأليف والاستفادة من التجارب الإنسانية التي عاصرها وشاهدها ليدفع بالمجتمع البشري إلى طريق التقدم والرقي. واغتنم ابن خلدون تكليفه بمهمة السفارة بين السلطان وقبائل البدو ليغير مساره، حلقة هذه المرة إلى أحياء (أولاد عريف) حيث أقام هو وأسرته بمكان يطلق عليه (قلعة ابن سلامة) وسط قبائل جليلة الخطر تعصمه من أهواء الحكام ونزعات السلاطين .. أقام ابن خلدون بهذه القلعة أربعة أعوام متخليا عن الشواغل كلها ، وشرع في كتابة مؤلفه الفريد (العبر) وقد أخذ في ترتيبه على أساس مقدمة وثلاثة كتب ، بحيث تختص المقدمة بعرض المنهج الذي يراه عاصما من الزلل والخطأ ، ويختص الكتاب الأول بتفسير طبائع العمران البشري والعلاقات التي تربط بين الظواهر ربطا علميا. أما الكتاب الثاني فهو لتاريخ العرب وأجيالهم ودولتهم، والكتاب الثالث لأخبار البربر ومواليهم من زناته.
وعندما أتم ذلك أعد نسخة رفعها إلى خزانة السلطان أبي العباس فكانت تلك هي أول نسخة تعد لكتاب (العبر) كما وصفهاابن خلدون حصيلة من الخبرة والدراسة، وتعرف هذه النسخة (بالنسخة التونسية).
الرحلة إلى القاهرة ومنصب قاضي القضاة>
وهنا وجب عليه أن يتحجج لدى السلطان برغبته في أداء فريضة الحج حتى يسمح له بالمغادرة فركب البحر سنة 784هـ مودعا المغرب ولم يعد إليه بعد ذلك.
كان الجو مختلفا تماما في القاهرة والمناخ أكثر ملائمة لمراجعة آثار علمه، حيث أتاحت له القاهرة فرصة التدريس بالأزهر أكبر المعاقل العلمية في العالم الإسلامي، ثم استقبله السلطان الظاهر برقوق فأكرم وفادته، واستحوذ على إعجابه ، فأصدر قراراً بتعيينه أستاذا للفقه المالكي بمدرسة (القمحية) للاستفادة بريع أوقافها التي كانت تغل القمح بأرض الفيوم.
مرة أخرى أصبح ابن خلدون في مواجهة الناس، ولكنه كان صارما في أحكامه مخالفا السابقين له من القضاة، وهنا بدأت متاعبه في منصبه الجديد، وتعرض مثلما تعرض في السابق إلى المؤامرات وغضب أصحاب الأهواء.
في هذه الأثناء أصيب بنازلة جديدة وهي هلاك أسرته على شواطئ الاسكندرية مما سبب له كارثة عنيفة ، فقد غرقت السفينة التي كانت تحمل إليه أهله وكتبه وكل ما يملك، لكنه ظل رابط الجأش وأكثر إصرارا على محاولة فهم تصاريف الحياة بالرجوع إلى حقول العلم والاعتكاف على التدريس والقراءة والتأليف.
بعدها يتم تعيينه أستاذا للفقه المالكي بالمدرسة (الظاهرية البرقوقية) ولكنه يعزل منها فيقرر أداء فريضة الحج.. بعد عودته من الأراضي الحجازية، ولاه السلطان تدريس الحديث بمدرسة (صر غتمش) وظل بعيدا عن القضاء أربعة عشر عاما هجريا، فكانت هذه الفترة الزمنية مناسبة حتى يكتب الجزء الأخير من كتابه (العبر) الذي يعرفنا بشخصيته وتاريخه ، ورحلاته شرقا وغربا. وبعد أن استكمل صياغة كتابه قدم منه نسخة إلى السلطان الظاهر برقوق. ويقوم بعدها ابن خلدون بالسفر لفلسطين لزيارةالأماكن المقدسة وبعد عودته يعزل من جديد من ساحة القضاء (لمبالغته في العقوبات والمسارعة إليها) فعاد مرة أخرى إلى محراب العلم الذي يرحب به دائما.
الرحلة إلى الشام ولقاء تيمور لنك التتري>
عندما زحفت جيوش التتار بقيادة تيمور لنك على بلاد الشام واستيلائه على مدينة حلب وما لحقها من الخراب والتدمير ، زحف بجيشه نحو دمشق وكانت آنذاك تابعة لسلطان المماليك في مصر، فأراد ابن الملك الظاهر برقوق، سلطان مصر، التصدي لجيوش التتار، فخرج لقتاله وصحب معه ابن خلدون وبعض الفقهاء، ولكن ظروف سياسية اضطرت السلطان المصري إلى العودة تاركا الموقف تحت رحمة القائد التتري الجبار.
وإزاء ذلك اجتمع الفقهاء والقضاة والأعيان في المدرسة العادلية، وكان معهم ابن خلدون واستقر رأيهم على طلب الأمان من تيمور لنك وصيانة حرماتهم وممتلكاتهم. وهنا طلب ابن خلدون الإذن بالذهاب للقاء تيمورلنك لإقناعه بفك الحصار عن دمشق.
قال ابن خلدون يروي قصة هذ اللقاء التاريخي مع تيمور لنك: لما وقفت بالباب خارج، طلبت الإذن بالجلوس في خيمة هناك، تجاور خيمة جلوسه، ثم زيد في التعرف باسمي إني القاضي المالكي المغربي فاستدعاني ودخلت عليه بخيمة جلوسه، وكان متكئاً على مرفقه وصحاف الطعام تمر بين يديه، فلما دخلت فاتحت بالسلام وأوميت إيماءة الخضوع ورفع رأسه ومد يده إليّ فقبلتها، وأشار علي بالجلوس فجلست حيث انتهيت ثم استدعى من بطانته الفقيه عبدالجبار بن النعمان من فقهاء الحنفية بخوارزم، فأقعده يترجم بيننا.
ويروي أيضا أنه عندما التقى الاثنان على مائدة العشاء ظل القائد التتري يطيل النظر والتأمل في شخصية العالم المغربي الذي أشار زيه الغريب إلى اختلافه عن العلماء المصريين، وفي نفس الوقت كان ابن خلدون الذي خبر النفوس البشرية يحدق هو الآخر في وجه القائد التتري لعله يسبر غوره وينجح في التعامل معه، وما أن بدأ الحديث حتى قص ابن خلدون على القائد التتري تاريخ التتار حتى وصل بالحديث إلى البلاد الجديدة التي أتى إليها القائد التتري غازيا.
فهنا أعجب تيمورلنك بابن خلدون وأراد أن يستفيد بعلم المؤرخ العربي، فطلب منه البقاء للعمل معه، لكن الشيخ المجرب كعادته اعتذر بلباقته المعروفة متعللا بحاجته إلى مكتبته وكتبه التي لا غنى له عنها واستأذن في العودة فأعاده القائد معززا مخفورا بالحرس اللازم، ولم يصدق معاصروه أنه نجا بحياته من ذلك الجبار التتري.
رحلة الخلود (وفاته)>
ظل ابن خلدون في الخمس سنوات الأخيرة من عمره في صراع وظيفي حول كرسي القضاء ، فقد أقيل من منصبه أكثر من مرة حتى عاد إلى القضاء للمرة السادسة والأخيرة وذلك في شعبان 808هـ، ومكث أياما قلائل انتقل بعدها فجأة إلى الرفيق الأعل،ى كان ذلك يوم الأربعاء لأربع بقين من رمضان، وكان عمره يقارب السادسة والسبعين عاما.
جاء هذا النبأ بعد حياة حافلة مثيرة لذلك المؤرخ المغربي الكبير، تقترب في وصفها من الشكل الملحمي شأن ما توصف به دائما حياة العباقرة من عظماء التاريخ.
خرج جثمان ابن خلدون من أحد البيوت القاهرية المطلة على النيل بعد أن تخلص من زيه المغربي الذي حرص على ارتدائه طوال حياته، وشيع الجثمان إلى مثواه الأخير في موكب جنائزي مهيب يليق بوداع قاضي القضاة المالكية ، مخلفا وراءه سر خلوده ، وهو مؤلفه الضخم (كتاب العبر ، ديوان المبتدأ أو الخبر في أيام العرب والعجم والبربر ، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر).
أقوال العلماء عنه* ابتكر ابن خلدون و صاغ فلسفة للتاريخ هي بدون شك أعظم ما توصل اليه الفكر البشري في مختلف العصور و الامم. أرنولد توينبي
* إن مؤلف ابن خلدون هو أحد أهم المؤلفات التي انجزها الفكر الإنساني. جورج مارسيز
* ان مؤلف ابن خلدون يمثل ظهور التاريخ كعلم ، و هو أروع عنصر فيما يمكن أن يسمى بالمعجزة العربية. ايف لاكوست
* انك تنبئنا بأن ابن خلدون في القرن الرابع عشر كان أول من اكتشف دور العوامل الاقتصادية و علاقات الإنتاج. ان هذا النبأ قد أحدث وقعا مثيرا و قد اهتم به صديق الطرفين (المقصود به لينين) اهتماما خاصا. من رسالة بعث بها مكسيم غوركي إلى المفكر الروسي انوتشين بتاريخ 21/ايلول سبتمبر 1912.
* تُرى أليس في الشرق آخرون من أمثال هذا الفيلسوف. لينين
* ففيما يتعلق بدراسة هيكل المجتمعات وتطورها فإن أكثر الوجوه يمثل تقدما يتمثل في شخص ابن خلدون العالم و الفنان ورجل الحرب والفقيه والفيلسوف الذي يضارع عمالقة النهضة عندنا بعبقريته العالمية منذ القرن الرابع عشر. روجية غارودي
هذا غيض من فيض مما قاله بعض أقطاب الفكر الغربيين ناهيك عن المفكرين العرب و المسلمين و فيما يلي سنحاول حصر بعض المواضيع التي تناولها ابن خلدون بالبحث دون أن ندعي أننا سنوفيها حقها وكيف نستطيع ذلك وفي كل يوم نكتشف الجديد حول هذا العالِم.
نظرياته و انجازته
علم التاريخ
لقد تجمعت في شخصية ابن خلدون العناصر الأساسية النظرية والعملية التي تجعل منه مؤرخاً حقيقياً - رغم أنه لم يول في بداية حياته الثقافية عناية خاصة بمادة التاريخ - ذلك أنه لم يراقب الأحداث و الوقائع عن بعد كبقية المؤرخين، بل ساهم إلى حد بعيد و من موقع المسؤولية في صنع تلك الأحداث والوقائع خلال مدة طويلة من حياته العملية تجاوزت 50 عاما، وضمن بوتقة جغرافية امتدت من الاندلس وحتى بلاد الشام . فقد استطاع، ولأول مرة، (اذا استثنينا بعض المحاولات البسيطة هنا و هناك) أن يوضح أن الوقائع التاريخية لا تحدث بمحض الصدفة أو بسبب قوى خارجية مجهولة، بل هي نتيجة عوامل كامنة داخل المجتمعات الإنسانية، لذلك انطلق في دراسته للأحداث التاريخية من الحركة الباطنية الجوهرية للتاريخ. فعلم التاريخ، وان كان (لايزيد في ظاهره عن أخبار الايام والدول) انما هو (في باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات و مبادئها دقيق و علم بكيفيات الوقائع واسبابها عميق، لذلك فهو أصيل في الحكمة عريق، و جدير بأن يعد في علومها و خليق(المقدمة). فهو بذلك قد اتبع منهجا في دراسة التاريخ يجعل كل أحداثه ملازمة للعمران البشري و تسير وفق قانون ثابت.
يقول: فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالامكان و الاستحالة أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران و نميز ما يلحقه لذاته و بمقتضى طبعه و ما يكون عارضا لا يعتد به و ما لايمكن أن يعرض له، و إذا فعلنا ذلك، كان ذلك لنا قانونا في تمييز الحق من الباطل في الاخبار، و الصدق من الكذب بوجه برهان لا مدخل للشك فيه، و حينئذ فاذا سمعنا عن شئ من الاحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله مما نحكم بتزييفه، وكان ذلك لنا معيارا صحيحا يتحرى به المؤرخون طريق الصدق و الصواب فيما ينقلونه. المقدمة
و هكذا فهو وان لم يكتشف مادة التاريخ فانه جعلها علما ووضع لها فلسفة ومنهجا علميا نقديا نقلاها من عالم الوصف السطحي والسرد غير المعلل إلى عالم التحليل العقلاني و الأحداث المعللة بأسباب عامة منطقية ضمن ما يطلق عليه الآن بالحتمية التاريخية، و ذلك ليس ضمن مجتمعه فحسب، بل في كافة المجتمعات الإنسانية وفي كل العصور، وهذا ما جعل منه أيضا وبحق أول من اقتحم ميدان ما يسمى بتاريخ الحضارات أو التاريخ المقارن.إني أدخل الأسباب العامة في دراسة الوقائع الجزئية، و عندئذ أفهم تاريخ الجنس البشري في إطار شامل ...اني ابحث عن الاسباب و الأصول للحوادث السياسية. كذلك قولهداخلا من باب الاسباب على العموم على الاخبار الخصوص فاستوعب أخبار الخليقة استيعابا ...و أعطي الحوادث علة أسبابا.
علم الاجتماع
أصبح من المسلم به تقريبا في مشارق الأرض و مغاربها، أن ابن خلدون هو مؤسس علم الاجتماع أو علم العمران البشري كما يسميه. و قد تفطن هو نفسه لهذه الحقيقة عندما قال في مقدمته التي خصصها في الواقع لهذا العلم الجديد: ... و هذا هو غرض هذا الكتاب الأول من تأليفنا...، و هو علم مستقل بنفسه موضوعه العمران البشري و الاجتماع الإنساني، كما أنه علم يهدف إلى بيان ما يلحقه من العوارض و الأحوال لذاته واحدة بعد أخرى، و هذا شأن كل علم من العلوم وضعيا كان أم عقليا و اعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة غريب النزعة غزير الفائدة، أعثر عليه البحث و أدى اليه الغوص... و كأنه علم مستبط النشأة، و لعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة . المقدمة
ويبدو واضحا ان اكتشاف ابن خلدون لهذا العلم قاده اليه منهجه التاريخي العلمي الذي ينطلق من أن الظواهر الاجتماعية تخضع لقوانين ثابتة و أنها ترتبط ببعضها ارتباط العلة بالمعلول، فكل ظاهرة لها سبب و هي في ذات الوقت سبب لللظاهرة التي تليها. لذلك كان مفهوم العمران البشري عنده يشمل كل الظواهر سواء كانت سكانية أو ديمغرافية،اجتماعية، سياسية، اقتصادية أو ثقافية. فهو يقول في ذلك :فهو خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم و ما يعرض لطبيعة هذا العمران من الأحوال مثل التوحش و التأنس و العصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن الكسب و العلوم و الصنائع و سائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الاحوال. المقدمة،وهنا يلامس أيضا نظرية النشوء و الارتقاء لدى داروين و ان لم يغص فيها. ثم أخذ في تفصيل كل تلك الظواهر مبينا أسبابها و تنائجها، مبتدئا بأن بإيضاح أن الإنسان لا يستطيع العيش بمعزل عن أبناء جنسه حيث: ان الاجتماع الإنساني ضروري فالإنسان مدني بالطبع أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية ... وهو معنى العمران.
ثم تعرض للعمران البشري على العموم مبينا أثر البيئة في الكائنات البشرية و هو مايدخل حاليا في علم الاتنولوجيا و الانثروبولوجيا. ثم بعد ذلك تطرق لأنواع العمران البشري تبعا لنمط حياة البشر و أساليبهم الإنتاجية قائلا: ان اختلاف الأجيال في أحوالهم انما هو باختلاف نحلتهم في المعاش. مبتدئا بالعمران البدوي باعتباره اسلوب الإنتاج الأولي الذي لا يرمي إلى الكثير من تحقيق ما هو ضروري للحياة ...ان اهل البدو المنتحلون للمعاش الطبيعي ... و انهم مقتصرون على الضروري الاقوات و الملابس و المساكن و سائر الأحوال و العوائد. المقدمة
ثم يخصص الفصل الثالث من المقدمة للدول و الملك و الخلافة و مراتبها و أسباب و كيفية نشوئها و سقوطها، مؤكدا أن الدعامة الأساسية للحكم تكمن في العصبية. والعصبية عنده أصبحت مقولة اجتماعية احتلت مكانة بارزة في مقدمته حتى اعتبرها العديد من المؤرخين مقولة خلدونية بحتة، و هم محقون في ذلك لأن ابن خلدون اهتم بها اهتماما بالغا إلى درجة أنه ربط كل الأحداث الهامة و التغييرات الجذرية التي تطرأ على العمران البدوي أو العمران الحضري بوجود أو فقدان العصبية. كما أنها في رأيه المحور الأساسي في حياة الدول و الممالك. و يطنب ابن خلدون في شرح مقولته تلك، مبينا أن العصبية نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا، ذلك أنها تتولد من النسب و القرابة و تتوقف درجة قوتها أو ضعفها على درجة قرب النسب أو بعده. ثم يتجاوز نطاق القرابة الضيقة المتمثلة في العائلة و يبين أن درجة النسب قد تكون في الولاء للقبيلة و هي العصبية القبلية ... و من هذا الباب الولاء و الحلف اذ نصرة كل أحد من أحد على أهل ولائه و حلفه للألفة التي تلحق النفس في اهتضام جارها أو قريبها أو نسيبها بوجه من وجوه النسب، و ذلك لأجل اللحمة الحاصلة من الولاء. أما اذا أصبح النسب مجهولا غامضا و لم يعد واضحا في أذهان الناس، فإن العصبية تضيع و تختفي هي أيضا. ... بمعنى أن النسب اذا خرج عن الوضوح انتفت النعرة التي تحمل هذه العصبية، فلا منفعة فيه حينئذ. هذا ولا يمكن للنسب أن يختفي و يختلط في العمران البدوي، و ذلك أن قساوة الحياة في البادية تجعل القبيلة تعيش حياة عزلة و توحش ، بحيث لا تطمح الأمم في الاختلاط بها و مشاركتها في طريقة عيشها النكداء، وبذلك يحافظ البدو على نقاوة أنسابهم، و من ثم على عصبيتهم.
بعض مؤلفاته التي كتبة: